د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
انتصار التهدئة في غزة مقال بقلم د. راغب السرجاني، يحلل فيه موقف قبول إسرائيل بالتهدئة لمدة 6 أشهر مع حماس المحاصرة، فهل التهدئة نصر للمسلمين؟ وما وجه
من المؤكد أن الكثيرين من المتابعين للموقف في فلسطين كانوا يعتقدون أن إدارة حماس لقطاع غزة سوف تنهار سريعًا بعد قرار الانفصال بالقطاع، وكذلك الحكومة الفلسطينية، واستقلال فتح بالضفة الغربية، وكان الجميع يعتقد هذا الانهيار لكثرة الضغوط التي تتعرض لها حماس ومعها المسلمون المحاصرون في داخل القطاع؛ فهناك الضغط اليهودي الشرس الذي يحكم الحصار حول القطاع، ولا يكتفي بذلك بل يطلق الصواريخ وقذائف الدبابات، ويتوغل أحيانًا ليلقي القبض على بعض المقاومين أو يقتل آخرين. وهناك الضغط الفلسطيني من السلطة القديمة التي يتزعمها محمود عباس ومن معه ممن انكشفت أوراقهم أمام عموم الناس بعد دخول حماس في السلطة، وظهر أمام الجميع كَمّ الفساد الذي كانت تعاني منه الإدارة الفلسطينية، وما زالت تعاني منه في الضفة الغربية نتيجة سيطرة الرموز الفاسدة على الأمور هناك.
وهناك الضغط العربي الذي يشارك في حصار حماس بمنتهى الجدية، ويستقبل زعماء السلطة القديمة على أنهم رموز الحكم الحقيقية، وينسى أن حكومة حماس كانت حكومة منتخبة من عامة الشعب الفلسطيني، وأنها تعرضت لإيذاء متكرر من منظمة فتح والسلطة القديمة، وذلك على مدار السنوات المتتالية. وهناك الضغط الأمريكي والأوربي الذي يدرج حماس داخل إطار الجماعات الإرهابية المحظورة، ومن ثَم يسوِّلون لأنفسهم كل وسائل الضغط على حماس، ويبرزون تعاطفهم الشديد مع اليهود "المساكين"!! ولعل هذا يتضح بقوة من خلال خطابات مرشحي الرئاسة الأمريكية أوباما وماكين على حد سواء.
وهناك أيضًا الضغط الإعلامي الذي يحمِّل حماس مسئولية الحصار الموجود في غزة، والوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني الصعب الذي يمر به القطاع، وكأن المفترض على هذه الحكومة المنتخبة أن تعيد تسليم مفاتيح الكرار إلى القط الفتحاوي القديم!
إن كل هذه الضغوط وغيرها كانت تنبئ بقرب سقوط حماس، وفشلها في السيطرة على الأوضاع في القطاع الفقير في غزة، ولكن هذا لم يحدث!! لقد رأينا أن اليهود على رغم ضخامة آلتهم العسكرية، والتأييد الأمريكي والأوربي، وأحيانًا التأييد العربي! على الرغم من كل ذلك وجدنا إسرائيل تقبل بتهدئة لمدة 6 أشهر كاملة!! وهذه التهدئة مع قطاع غزة فقط، وليست مع قطاع الضفة الغربية.
ولا يخفى على أحد أن اليهود لم يفعلوا ذلك لأنهم يرغبون في السلام، أو لأنهم يقترفون ما يقترفون بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، أو لأنهم يقدرون حماس ويحترمونها، ولكن حدث هذا رغم أنوفهم، وبغير رغبتهم الحقيقية.. لقد دُفِعوا إلى ذلك دفعًا؛ لأنَّ الضغط الذي تمارسه عليهم حماس بالمقاومة أشد من الضغط الذي يمارسونه هم على حماس بالصواريخ والقنابل والعملاء!
إنه موقف فريدٌ حقًّا!
لقد ذكّرني هذا الموقف من أحد الوجوه بصلح الحديبية الذي أرَادَت فيه قريش أن تلتقط الأنفاس، وطلبت التهدئة مع رسول الله r لمدة 10 سنوات كاملة، مع أنها هي القبيلة القوية العريقة، والدولة الإسلامية ناشئة وصغيرة؛ ولذلك اعتُبر صلح الحديبية فتحًا إسلاميًّا، حتى قال تعالى في وصفه: {إٍنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].
وليس ضروريًّا أن تكون التهدئة متشابهة تمام التشابه مع صلح الحديبية، ولكنها تعني أمرًا واضحًا، هو أن القوتين -حماس واليهود- قوتان متكافئتان!
إنني أعتبر هذه التهدئة نصرًا للمسلمين بحق!
ولكن لا بُدَّ أن نأخذ في الاعتبار أن قريشًا نقضت عهدها بعد ذلك وخالفت الصلح، واليهود أشد خيانة من قريش والمشركين؛ لذلك يُتَوَقّع جدًّا أن يقوم اليهود بنقض هذه التهدئة بأي عِلَّةٍ من العلل، أو حتى بدون علة، وقد وصفهم ربنا I في القرآن بقوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].
وتاريخ اليهود يُثبت هذا الأمر؛ ولعلّ هذا هو ما دفع عموم المشتركين في استبيان الموقع (حوالي 88%) إلى التشكيك في إمكانية أن تستمر التهدئة لمدة ستة شهور كاملة، وقد بدت بوادر هذا النقض واضحة عندما قرأنا -منذ يومين- عن غلق اليهود المعابر التجارية في غزة.
وعليه فإن كنا نتوقع مثل هذا النقض والغدر فإن علينا أن نستعد، ولا يعني ذلك أن نسارع نحن بنقض العهد أو قطع الهدنة؛ فالمسلمون عند عهودهم، ولكن يجب أن نأخذ كل التدابير اللازمة للتعامل مع الموقف بسرعة في حال نقض اليهود للتهدئة المتفق عليها..
وعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يقفوا بكل طاقاتهم السياسية والاقتصادية والإعلامية، وقبل ذلك وبعده الإيمانية مع إخوانهم الصامدين في قطاع غزة؛ فالموقف جَلَل، والحدث مُهِمٌّ، والقضية خطيرة، والجميع مسئول عن أرضٍ انتهبها اليهود في وجود أكثر من مليار مسلم على وجه الأرض.
ونسأل الله U الثبات لحماس، ولكل من رفع راية الإسلام.
ونسأله I العزة للإسلام والمسلمين.
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك